الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{مثل الذين} ولما كان العلم ولاسيما الرباني يجب أن يفرح به ويرغب فيه من أيّ موصل كان، بني للمجهول قوله وصيانة لاسمه الشريف عن أن يذكر عن العصيان: {حملوا التوراة} أي كلفوا وألزموا حمل الكتاب الذي آتاه الله لبني إسرائيل على لسان موسى عليه الصلاة والسلام بأن علمهم إياها سبحانه وكلفهم حفظ ألفاظها عن التغيير والنسيان ومعانيها عن التحريف والتلبيس وحدودها وأحكامها عن الإهمال والتضييع.ولما كان تركهم لحملها وهي من عند الله وعلى لسان رجل منهم هو أعظم في أنفسهم وأجلهم إحسانًا إليهم في غاية البعد ولاسيما مع طول الزمان المسهل لحفظها الميسر لتدبرها وتعرف مقدارها، عبر بأداة البعد فقال: {ثم لم يحملوها} بأن حفظوا ألفاظها ولم يعملوا بما فيها من الوصية باتباع عيسى عليه الصلاة والسلام إذا جاءهم ثم محمد صلى الله عليه وسلم إذا جاء، فهي ضارة لهم بشهادتها عليهم قاذفة لهم في النار من غير نفع أصلًا {كمثل} أي مِثَّل مَثَل {الحمار} الذي هو أبله الحيوان، فهو مثل في الغباوة، حال كونه {يحمل أسفارًا} أي كتبًا من العلم كاشفة للأمور تنفع الألباء، جمع سفر، وهو الكتاب الكبير المسفر عما فيه.ولما كان المثل الجامع لهما- وهو وجه الشبه- شخصًا مثقلًا متعبًا جدًا بشيء لا نفع له به أصلًا فهو ضرر عليه صرف لا يدرك ما هو حامله غير أنه متعب ولا يدري أصخر هو أم كتب، أنتج قوله معبرًا بالأداة التي هي لجامع الذم ترهيبًا للآدميين من أن يتهاونوا بشيء من أحكام القرآن فيكونوا أسوأ مثلًا من أهل الكتاب فيكونوا دون الحمار لأن رسولهم صلى الله عليه وسلم أعظم وكتابهم أعلى وأفخم فقال: {بئس مثل القوم} أي الذين لهم قوة شديدة على محاولة ما يريدونه فلم يؤتوا من عجز يعذرون به {الذين كذبوا} أي عمدوا على علم عنادًا منهم وكفرًا {بآيات الله} أي دلالات الملك الأعظم على رسله ولاسيما محمد صلى الله عليه وسلم وجميع ما يرضيه مثلهم فإن مثلهم قد تكفل بتعريف أنهم قد اجتمعوا مع الحمار في وصف هو الروح الباطني، وهو الضرر الصرف الذي لا نفع فيه بوجه بأنفع الأشياء، وهو ما دل على الله فضمن سعادة الدارين، وهذا المثل وإن كان نصًا في اليهود فهو لجميع قراء السوء من كل ملة لاشتراكهم معهم في وجه الشبه كما أن مثل الكلب في الأعراف على هذا النحو، وكأنه لم يدخل سبحانه هذه الأمة في ذلك صريحًا إشارة إلى حفظها من غير أن يكلها إلى نفسها كما أنه آتاها العلم مع الأمية منها ومن رسولها من غير أن يكلهم إلى كتابة ولا تقدم علم ما ولا تكلف لشيء.ولما كان التقدير: فاستحقوا الوصف بجميع المذام لأنهم ظلموا أشد الظلم، عطف عليه قوله: {والله} أي الذي له جميع صفات الكمال لا يهديهم- هكذا كان الأصل، ولكنه أظهر تعميمًا وتعليقًا للحكم بالوصف فقال: {لا يهدي القوم} أي لا يخلق الهداية في قلوب الأقوياء الذين تعمدوا الزيغ: {الظالمين} أي الذين تعمدوا الظلم بمنابذة الهدى الذي هو البيان الذي لم يدع لبسًا حتى صار الظلم لهم صفة راسخة.ولما كان قولهم أنهم أولياء الله وأحباؤه في غاية البعد من هذا المثل، استأنف ما يدل على صحة المثل قطعًا، فقال معرضًا عنهم آمرًا لمن كذبوه بتبكيتهم: {قل} أي يا أيها الرسول الذي هم قاطعون بأنه رسوله الله: {يا أيها الذين هادوا} أي تدينوا باليهودية.ولما كان الحق يصدع من له أدنى مسكة، فكانوا جديرين بالرجوع عن العناد، عبر بأداة الشك فقال: {إن زعمتم} أي قلتم قولا هو معرض للتكذيب ولذلك أكدتموه {أنكم أولياء الله} أي الملك الأعلى الذي لا أمر لأحد معه، خصكم بذلك خصوصية مبتدأة {من دون} أي أدنى رتبة من رتب {الناس} فلم تتعد الولاية تلك الرتبة الدنيا إلى أحد منكم غيركم، بل خصكم بذلك عن كل من فيه أهلية الحركة لاسيما الأميين {فتمنوا الموت} وأخبروا عن أنفسكم بذلك للقلة من دار البلاء إلى محل الكرامة والآلاء {إن كنتم} أي كونًا راسخًا {صادقين} أي عريقين عند أنفسكم في الصدق فإن من علامات المحبة الاشتياق إلى المحبوب، ومن التطوع به أن من كان في كدر وكان له ولي قد وعده عند الوصول إليه الراحة التي لا يشوبها ضرر أنه يتمنى النقلة إلى وليه، روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم «والذي نفسي بيده لا يقولها منكم أحد إلا غص بريقه» فلم يقلها أحد منهم علمًا منهم بمصدقه صلى الله عليه وسلم فلم يقولوا ولم يؤمنوا عنادًا منهم.ولما كان التقدير: فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم امتثالًا لأمرنا ذلك، فلم يتمنوه في الوقت الحاضر، تصديقًا منا لنبوته وتعجيزًا وتحقيقًا لمعجزات رسالته، دل على هذا المقدر بما عطف عليه من قوله الدال قطعًا على صدقه بتصديقهم له بالكف عما أخبر أنهم لا يفعلونه: {ولا يتمنونه} أي في المستقبل، واكتفى بهذا في التعبير بلا لأن المذكور من دعواهم هنا أنهم أولياء لا كل الأولياء فهي دون دعوى الاختصاص بالآخرة، وأيضًا الولاية للتوسل إلى الجنة، ولا يلزم منها الاختصاص بالنعمة بدليل أن الدنيا ليست خالصة للأولياء المحقق لهم الولاية، بل البر والفاجر مشتركون فيها.ولما أخبر بعدم تمنيهم، وسع لهم المجال تحقيقًا للمراد فقال: {أبدًا} وعرف أن سببه معرفتهم بأنهم أعداء الله فقال: {بما قدمت} ولما كان أكثر الأفعال باليد، نسب الكل إليها لأنها صارت عبارة عن القدرة فقال: {أيديهم} أي من المعاصي التي أحاطت بهم فلم تدع لهم حظًا في الآخرة بعلمهم.ولما كان التقدير تسببًا عن هذا: لئلا يقولوا: سلمنا جميع ما قيل في الظالمين لكنا لسنا منهم فاللّه عليم بهم في أفعالهم ونياتهم، عطف عليه قوله معلقًا بالوصف تعميمًا وإعلامًا بأن وصف ما قدموا من الظلم {والله} أي الذي له الإحاطة بكل شيء قدرة وعلمًا {عليم} أي بالغ العلم محيط بهم- هكذا كان الأصل، ولكنه قال: {بالظالمين} تعميمًا وتعليقًا بالوصف لا بالذات، فالمعنى أنه عالم بأصحاب هذا الوصف الراسخين فيه منهم ومن غيرهم فهو يجازيهم على ظلمهم وهم يعلمون ذلك، وأعظم مصدق الله- ومن أصدق من الله قيلًا- في هذا أنهم ما قوتلوا قط إلا أرزوا إلى حصونهم وقرأهم كما مر في سورة الحشر، فدل ذلك على أنهم أحرص على الحياة الدنيا من الذين أشركوا كما مر في سورة البقرة فإنهم عالمون بأنهم يصيرون إلى النار، والعرب يظنون أنهم لا يبعثون فهم لا يخافون ما بعد الموت وهم شجعان يقدمون على الموت كما قال عنترة بن شداد العبسي: ولما كان عدم تمنيهم علم من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم لموافقته ما أخبر به، وكان ذلك فعل من يعتقد أن التمني يقدمه عن أجله وعدمه يؤخره، فصاروا بين التكذيب بما عندهم ونهاية البلادة، أمره صلى الله عليه وسلم بتنبيههم على بلادتهم تبكيتًا لهم فقال: {قل} وأكد إعلامًا لهم بأنه يلزم من فعلهم هذا إنكار الموت الذي لا ينكره أحد فقال: {إن الموت} وزاد في التقريع والتوبيخ بقوله: {الذي تفرون منه} أي بالكف عن التمني الذي هو أيسر ما يكون مع أنه يوصلكم إلى تكذيب من أنتم جاهدون في تكذيبه، وأكد وقوعه بهم لأن عملهم عمل من هو منكر له، وربطه بالفاء جعلًا لفرارهم كالسبب له، فإن الجبن من أسباب الموت مع ما يكسب من العار كما قال: أي هو غالب عليه غلبة العالي على السافل فقال: {فإنه ملاقيكم} أي مدرككم في كل وجه سلكتموه بالظاهر أو الباطن.ولما كان الحبس في البرزخ أمرًا- مع أنه لابد منه- مهولًا، نبه عليه وعلى طوله بأداة التراخي فقال: {ثم تردون} ونبه بالبناء للمفعول على القهر منه سبحانه والصغار منهم وأنه عنده في غاية السهولة {إلى عالم الغيب} وهو كل ما غاب عن العباد فهو مخبر عن أخلاقكم عن علم.ولما كان بعض الفلاسفة يقر بعلمه تعالى بالكليات، وينكر علمه بالجزئيات قال: {والشهادة} وهي كل ما ظهر وتشخص ولو لواحد من الخلق قبل كونه وبعد كونه.ولما كان التوقيف على الأعمال فظيعًا مرجفًا، قال مسببًا عن الرد: {فينبئكم} أي يخبركم إخبارًا عظيمًا مستقصى مستو في {بما كنتم} أي بما هو لكم كالجبلة {تعملون} أي بكل جزء منه مما برز إلى الخارج ومما كان في جبلاتكم ولو لقيتم لعلمتموه ليجازيكم عليه. اهـ.
الثالث: قال تعالى: {بِئْسَ مَثَلُ القوم} كيف وصف المثل بهذا الوصف؟ نقول: الوصف وإن كان في الظاهر للمثل فهو راجع إلى القوم، فكأنه قال: بئس القوم قومًا مثلهم هكذا.ثم إنه تعالى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخطاب لهم وهو قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6)}هذه الآية من جملة ما مر بيانه، وقرئ: {فَتَمَنَّوُاْ الموت} بكسر الواو، و{هَادُواْ} أي تهودوا، وكانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه، فلو كان قولكم حقًا وأنتم على ثقة فتمنوا على الله أن يميتكم وينقلكم سريعًا إلى دار كرامته التي أعدها لأوليائه، قال الشاعر: فهم يطلبون الموت لا محالة إذا كانت الحالة هذه، وقوله تعالى: {وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ} أي بسبب ما قدموا من الكفر وتحريف الآيات، وذكر مرة بلفظ التأكيد {وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} ومرة بدون لفظ التأكيد {وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ} وقوله: {أَبَدًا...والله عَلِيمٌ بالظالمين} أي بظلمهم من تحريف الآيات وعنادهم لها، ومكابرتهم إياها.{قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)}يعني أن الموت الذي تفرون منه بما قدمت أيديكم من تحريف الآيات وغيره ملاقيكم لا محالة، ولا ينفعكم الفرار ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة يعني ما أشهدتم الخلق من التوراة والإنجيل وعالم بما غيبتم عن الخلق من نعت محمد صلى الله عليه وسلم وما أسررتم في أنفسكم من تكذيبكم رسالته، وقوله تعالى: {فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} إما عيانًا مقرونًا بلقائكم يوم القيامة، أو بالجزاء إن كان خيرًا فخير.وإن كان شرًا فشر، فقوله: {إِنَّ الموت الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ} هو التنبيه على السعي فيما ينفعهم في الآخرة وقوله: {فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} هو الوعيد البليغ والتهديد الشديد.ثم في الآية مباحث:البحث الأول: أدخل الفاء لما أنه في معنى الشرط والجزاء، وفي قراءة ابن مسعود {ملاقيكم} من غير {فَإِنَّهُ}.الثاني: أن يقال: الموت ملاقيهم على كل حال، فروا أو لم يفروا، فما معنى الشرط والجزاء؟ قيل: إن هذا على جهة الرد عليهم إذ ظنوا أن الفرار ينجيهم، وقد صرح بهذا المعنى، وأفصح عنه بالشرط الحقيقي في قوله: اهـ.
|